[[ عشقٌ يُدعى الجودو:
رحلةٌ من رحلاتي في مدرسة الحياة ]]

في صيف 2003، دخلتُ عالم الجودو مصادفةً، حين رافقتُ عمي إلى نادي اتحاد الشرطة الرياضي، حيث وقفتُ لأول مرة على بِساط الجودو لأراقب أبن عمي وهو يتدرب بحماس. وقتها لفتَ انتباهي نظراتٍ تترصدني بتدقيق، انه المُدرب ينظُر بنظرةً خبيرة.
حكاية اختياري أشبه بمصادفةٍ مُدبرة. المدرب الذي عانى لشهورٍ من شحّ اللاعبين في فئة الوزن الحر، رأى بيّ الحلقة المفقودة في فريق النادي. لم يكن الأمر قراراً اتخذته أنا، بل قدراً اختاره الجودو لي قبل أن أختاره.
وهكذا، دون تخطيط مسبق، انطلقت رحلتي مع هذه الرياضة الذكية التي تختلف عن كل ما عرفته.
[الجودو ليس قوةً عمياء، بل شطرنجٌ بشري]، حيث تُحول قوة خصمك إلى سلاح لصالحك.

كل سقوطٍ كان درساً في الصمود، وكل حركةٍ فاشلةٍ تتحول إلى فرصةٍ للتعلم، ولكن أهم ما تعلمت:
أن الأذكياء فقط هم من ينتصرون هنا، وأن اللياقة وإن كانت مهمة، فإن الذكاء التكتيكي هو الأهم. لكن الطريق لم يكن مفروشاً بالورود.
في ذاك الزمن الجميل كنّا عائلةً واحدة في النادي، نترابط كالأسرة. أذكر تلك الأيام حين كانت أي إصابةٍ لأحدنا تتحول إلى همٍّ جماعي. لم تكن هناك رعاية صحية كافية، فكان المدرب وزملائي يستنفرون كل علاقاتهم لتأمين العلاج.
أنا نفسي واجهت إصاباتٍ خطيرة كادت تنهي مسيرتي، لولا فضل الله أولاً، ثم دعم أبي -رحمه الله- الذي لم يدخر جهداً في علاجي حتى عدتُ مرتين.
في تلك الأيام الصعبة، تبلورت لديّ [قاعدة وجودية]:
“سلامتي أولاً.. ثم الفوز”.
لكن الزمن قسّمني بأن الحياة ليست حلبة جودو واحدة، فهناك معارك يكون الفوز فيها هو الهدف الوحيد، ولا مكان لشرف المشاركة إذا كان الثمن هو الرضا بالهزيمة.
تعلمت ألا أخوض معركةً أعرف من البداية أنها خاسرة، وأن الوقت ثمينٌ لا يُهدر.
كنتُ مختلفاً عن زملائي في شغفي بالتعلم. بينما كان الجميع يكتفي بتدريبات النادي، كنتُ أقضي الساعات أبحث عن تقنيات جديدة على الإنترنت، ثم أجربها عملياً في التدريبات. ربما كنتُ الوحيد في ذلك الوقت الذي يدرس الجودو خارج البِساط، حتى أنني تفوقتُ في بعض المهارات التي لم يعلّمنا إياها المدرب، وأذكر كيف كان يتفاجئ.
لكن الجودو منحني أكثر من الميداليات. علمني أن الضعفاء [ضعفاء الأخلاق] فقط هم من يلجؤون إلى المكر والخداع، بينما الأقوياء يبنون انتصاراتهم على المهارة والشرف.
منحني الجودو إخوةً حقيقيين، ما زلتُ أواصلهم حتى اليوم، فالجودو ليس رياضةً نمارسها ثم ننساها، بل هي “عشقٌ يدوم”.
بينما يهيم العالم خلف كرة القدم، أجد نفسي مدفوعاً بمتابعة الجودو، تلك الرياضة الاستثنائية التي لا تعتمد على اللكم والركل، بل على [فن تحويل قوة الخصم إلى هزيمته].
إنها معركة ذكاء قبل أن تكون معركة أجساد.

تحية إجلالٍ لكل رياضيٍ يبذل دمه وعرقه في سبل المجد، وتحية خاصة لمحاربي الجودو في كل الأندية. فأنتم تمثلون الروح الحقيقية للرياضة: الشجاعة، المروءة، والإرادة التي لا تعرف المستحيل. دمتم أبطالاً، دمتم سالمين.
إنها ليست مجرد ذكريات.. إنها فلسفة حياة وأرثٌ أحمله في دمي.

